بحث

الله أوَّلٌ بلا بِداية وآخر بلا نِهاية

الله أوَّلٌ بلا بِداية وآخر بلا نِهاية

بسم الله الرحمن الرحيم

     أيها الأخوة، كُلُّكم يعْلم أنَّ هناك خالِقاً، وهناك ما سِوى الخالق، فما سِوى الخالق هي الموجودات، من كون وسماوات، فإنّ الموجودات لا بدّ أن تنتهي إلى واجب الوُجود بِذاته قطْعاً للتَّسَلْسُل، فما معنى هذا الكلام؟ أي إذا قلنا: مَن خلق هذا الكون؟ قلنا: خلقه إلهٌ، ومن خلق هذا الإله؟ خلقه إلهٌ آخر، ومَن خلق هذا الآخر؟ حلقة مُفْرَغَة، ونقع فيما يُسَمَّى التَّسَلْسُل غير المُتناهي، فلا بدّ إذاً أن نقْطع هذا التَّسَلْسُل، وهكذا يُقِرُّ العقل أنَّ برهان التَّسلسل يعني أنَّهُ لا بدّ في النِّهاية من خالقٍ لا يحْتاج إلى مَن يخْلُقُه، وما سِوى ذلك مَخْلوقون، هذه الموجودات يجب أن تنْتهي إلى واجب الوجود بِذاته،   

مثل أقرب من ذلك أن نقول: من أين هذه البيضة؟ من الدجاجة، ومن أين هذه الدجاجة؟ من البيْضة، ثمَّ نبقى نُكَرِّر هذا الحدث، فلا بدّ أن ننتهي إلى أنَّ هناك دجاجة خلقها الله مباشرةً هي التي أخْرجت بيْضةً، والدجاجة هي التي خرجت من هذه البيْضة، أما أن نسْتمِرّ إلى ما لا نِهاية فهذا تَسَلْسل غير متناهٍ، فلا بدّ من قَطْع هذا التَّسلْسل، والعقْل لا يقبل تسَلْسُلاً لا نِهائيّاً، فالتَّسلْسُل حاصِل، أما التَّسلسل اللانِهائي فمَرْفوض.  

     نُشاهد حُدوث الحيوان أمام أعيُنِنا، فالذي عنده هِرَّة قد يسْتيْقِظ أحْياناً، وقد ولَدَتْ له هرر كثيرة، وكذا النبات والمعادِن، وحوادِث الجوّ كالمطر، وغير ذلك، وهذه الحوادِث وغيرها ـ دَقِّقوا ـ ليْسَتْ مُمْتَنِعَة إنَّما هي مَوْلودة، هناك حيوان يولد، ونبات ينْبت، ومطر ينزل، وبُحَيْرة تتشَكَّل، ونَهْر يُشَق، وبئر يُحْفَر، إذاً هناك موجودات، وهذه الموجودات ليْسَت ممْتَنِعة أي يُمْكن أن توجد، فإنَّ المُمْتَنِع لا يوجد، فلو أنَّها كانت ممتنِعة لم تكن موجودة، فما دامتْ ليْست ممتنِعَة فهي موجودة وليْسَت واجِبَة الوجود لِنَفْسِها، فأيّ شيءٍ موجود إلا أنّه لا يسْتطيع أن يخْلق ذاته بِذاتِه، فإذا قلنا ممتَنِعة أي غير موجودة، وإذا قلنا موجودة معنى ذلك أنَّها لا توجد بِذاتِها .  

     فإنّ الممتنِع لا يوجد، وليْسَت واجبة الوُجود بِنَفْسِها، فإنَّ واجب الوُجود بِنَفْسِه لا يقبل العَدَم، فلا يُمكن أن يسْبقه عَدَم، وهذه الأشياء كانت مَعْدومة ثمَّ وُجِدَت، فَعَدَمُها ينْفي وُجودها بِنَفْسِها، ووُجودها ينفي امْتِناعُها، وما كان قابلاً للوُجود والعَدَم لم يكن وُجوده بِنَفْسِه، إذاً ما سِوى الله تعالى موجود، وليس مُمْتَنِعاً، وما سِوى الله تعالى موجودٌ، ولكن ليس بِذاتِه، والسَّبب أنَّهُ سبقه عدم، ولو كان هذا الموجود واجِباً بِذاته لما سَبَقَهُ عَدَم!   

     هل هم أوْجَدوا ذاتهم بِذاتِهم؟ لا، فهذا الموجود يحتاج إلى واجب الوجود قَطْعاً بالتَّسَلْسُل، وهذا الموجود لا يُعقل أنَّهُ وُجِدَ بِذاته والدليل أنَّهُ لا يسْبِقُهُ عدم .  

     إذاً كلّ هذا الكلام الذي غاص فيه المُتَكَلِّمون مُلَخَّصُه قوله تعالى:  

﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾

     أَحَدَثوا من غير مُحْدِث، أم هم أحْدثوا أنفسهم؟ والمعلوم قطْعاً أنَّ الشيء المُحْدَث لا يوجِدُ نفْسه، فالممكن الذي ليس له من نفْسه وُجود ولا عدم لا يكون موْجوداً بِنَفْسِه بل لا بدّ من جِهَةٍ توجِدُه، وإلا كان معْدوماً، وكلُّ ما أمكن وُجوده بَدَلاً من عدمه، وعدمه بَدلاً من وُجوده، فليس له من نفسِه وُجودٌ ولا عدم لازِمٌ له، فالكون موجود وليس مُمْتَنِع، ولكنَّ هذا الوُجود ليس بِذاتِه، إذاً هذا الموجود لا بدّ له من واجب الوُجود قطْعاً للتَّسَلْسُل .    قال تعالى:  

﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾



المصدر: العقيدة الطحاوية - الدرس (05-20) : الله قديم بلا ابتداء ودائم بلا انتهاء