بحث

الاستدلال بالعقل على علم الله بخلقه

الاستدلال بالعقل على علم الله بخلقه

بسم الله الرحمن الرحيم

     العَقْل أداة مَعْرِفَة الحقائق، ولكن له طاقَة مَحْدودة فَحَيْثُما وَجَّهْتَهُ إلى المادَّة لِتَخْتَبِر مُنْشِأها، وإلى الخَلْق لِتَعْرِفَ خالِقَهُ، وإلى النِّظام لِتَعْرِفَ نِظامَهُ، وإلى الفِطْرة لِتَعْرِف من فْطَرَها فحَيْثُما تَوَجَّهْتَ إلى المادَّة بِعَقْلِكَ كَشَفَ لك ما وراء المادَّة، وهذه المُهِمَّة سَمَّاها العُلماء الاسْتِدْلال، وهذه هي صَلاَحِيَّة العَقْل؛ تنْظر في الكون فَتَرى المُكَوِّن، وتنظر في النِّظام فَتَرى المُنَظِّم، وتنظر في الإبداع فَتَرى المُبْدِع، وتنظر في الجمال فَتَرى الجميل، وتنظر في الحِكْمة فَتَرى الحكيم.

     حينما يأتي أخٌ مِن إخواننا الكرام لِيُمْسِكَ هذا الكأس، ويَضَعه هنا، وأنا أعرف ماذا يفْعَل فهذا علمٌ، لكِنَّني إذا أمْسَكْتُهُ أنا، ونَقَلْتُه، فهذا فعلٌ لا علم، ومِن وراء الفعل علمٌ، هذا من باب أوْلى، وهو أبْلَغ، فالفِعْل فِعْلُ الله، فَكَيْف لا يعْلم مَن خلَق؟ 

      فالله  خلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِه، أي خَلَقَهم عالِماً بِهم، ولا يمكن أن يكونَ شيء إلا بالله، وهو الحيّ القَيُّوم، فالحَرَكات، والسَّكنات، وكل شيء في الكون لا يقوم إلا بالله، فالإنسان إذا عَلِمَ فَهُوَ طرَفٌ مُتَفَرِّج، لكنَّ الله تعالى كيف يعْلَم؟ لأنَّه لا يقَعُ شيء إلا بِفِعْلِه، فَعِلْمُ الله تعالى إذاً لازِمٌ .

     مَرْكَبَة فضائِيَّة اسْتطاعَت أن تتخَلَّص من جاذِبِيَّة الأرض، هذا يعني أنَّ سرعتها فائقة وخيالية، إخواننا الرِّياضِيِّون يعلمون كيف تتفَلَّت المركبة من جاذِبِيَّة الأرض، فالطائرة العادِيَّة لا يمكن أن تخرق الغِلاف الجَوِّي فالأرض تجْذِبُها، أما مركبَة الفضاء التي تذهب للقَمَر فهذه انْدَفَعَت بِسُرْعَة، ولا بدّ من سرعة حتَّى تتغَلَّب هذه المركبة على جاذِبِيَّتِها للأرض، فأنت لم تَلْتَقِ إطْلاقاً بِأُناسٍ صَمَّموا هذه المرْكَبَة إلا أنَّهُ ثبتَ لَدَيْك أنَّ هناك مرْكبة انْطَلَقَت من قاعِدَة إطْلاق الصَّواريخ ، وسارَت باتِّجاه القَمَر، وتحتاج إلى ثلاثة أيَّام، هذا يعني أنَّ الذي وَجَّهها نحو القَمَر، أو إلى ما بعد القَمَر هذا يعني أنّه درَسَ سرعة الاتجاه نحو القَمر، ودرس السرعة التي تتفلَّت المركبة من الجاذِبِيَّة، وأثناء السَّير صار هناك تصحيح مسار، وهناك اتِّصال بين الأرض والمركبَة لا سِلْكي، ووصَلَت هذه المركبة إلى القَمَر، ومَشَت عليه، وتَجَوَّل الرُّواد عليه، فهل تَحْكم وأنت لم تَرَهم ولم تر خِبْراتِهم، هل تحكم بِعِلْمِهم أم بِجَهلهم؟ 

     وتركب طائرة تَسَع لأربعمئة راكب، ويُقَدَّم لك الطعام والشراب، وتجلس بِمقاعِد مُريحة، وعلى ارْتِفاع أربعين ألف قَدَم؛ فهل تَحْكم على مَن صَمَّم هذه الطائِرَة بالعِلْم أم بالجَهْل؟ فالذي صَمَّمها لم ترهُ، لكن ألا تحْكم له بالعِلْم وأنت تصعد الطائرة، والحرارة فوق كَم؟ الحرارة خمسون تحت الصِّفر! يعني تجمّد الجهاز، وعلى هذا فهناك أجْهزة تَسْخين في الطائرة، فإذا رأى انخفاض الحرارة خمس درجات يسخِّن الأجهزة كلَّها، الأمر الثاني؛ هل يُعْقَل على ارْتِفاع خمسين ألف قَدَم أنْ يتنفَّس الإنسان، المفروض أنْ يخرج الدَّم مِن رِجْلَيْه ويخْتَنِق! لكنَّ الطائرة مَضْغوطة ثمانِيَة أمْثال الهواءً، حتى يتوافق الضَّغط على ارْتِفاع أربعين ألف قَدَم مع الضَّغط الذي على الأرض، ولو تَعَطَّل جِهاز الضَّغط على الطائِرَة لَوَجَب أن تَهْبِط اضْطِرارِيّاً، فالقَصْد من كلامي أنَّ الذي صَمَّم هذه الطائرة ما رأَيْتَهُ، وما رأيْتَ شهاداته، أفلا تَحْكم عليه بأنَّه عالِم يقيناً! أفلا تقول: إنّ وراء هذه المهارات أدْمِغَة؟ 

     قرأْتُ كتاباً عن الطُّيور، إلا أنَّه لفَتَ نظري فيه أوّل عبارة وهي: إنَّ أعْظَمَ طائِرَةٍ صنَعَها الإنسان تبْدو تافِهَةً أمام الطائِر، فالطائر يطير سبْع عشرة ساعَة من دون تَوَقُّف! ويرى ثمانية أمْثال الإنسان، يا ربّ لماذا خَصَصْتَ هذا الطائر بالبَصَر الحادّ؟ لأنَّه يلْزَمُه كي يأكل حين ينزل من السَّماء إلى الأرض، وربما لا يجد، ثمّ يُعيد الكرَّة فلا يَجِد مثلاً لكن لمَّا أوْدع الله تعالى فيه قُوَّة الإبْصار، فهذه تَجْعَلُه يرى الأكل من بعيد؛ هذه هي الحِكْمة! وله غِشاء شَفّاف مُقاِوم للهواء حينما يطير بِسُرعة هائِلَة، وما دام الطائر في حركة دائِمَة فهل تُصَدِّقون أنّ الهواء الذي يسْتَنشِقُه الطائِر يسْري إلى جِسْمِه كُلِّه، فالهواء المُسْتَنْشَق يجري في قَصبات هوائِيَّة تَصل لِجَميع الجسَد، وذلك من أجْل تَبْريد العَضَلات، 

     أيها الأخوة، لو قرأتُم عن الطُّيور لَوَجَدْتُم شيئاً لا يُصَدَّق، وإنًّ الطائرة لتبْدو تافِهَة أمام هذا الطائِر، لذا عندما ترى طائرةً على متنها أربعمئة راكِب مثل المدينة، فَخالِقُ الطُّيور أبْدعَ أموراً وأشياء لا تُقاسُ بأيّ اخْتِراع.

     كما يسْتحيل أن يُصَنَّعُ دواء فعَّال جدّاً من قِبَلِ رجلٍ جاهِل! ولأنَّ إيجادهُ الأشياءَ بإرادَتِه، والإرادة تَسْتَّلْزِمُ تَصَوُّر المُراد، وتَصَوُّر المُراد هو العِلْم بالمُراد، فكأنَّ الإيجاد مُسْتَلْزِماً للإرادة، والإرادة مُسْتَلْزِمَةً للعِلْم، فأصْبَحَ الإيجاد مُسْتَلْزِمٌ للعِلْم، والعقل يقول هذا.

     هناك عالِم قال: هل تؤمن أنّ انْفِجاراً حصل بِمَطبعة فَصَدَر منه قاموس: لاروس، ( LAROUSSE ) ‍! فالذي يؤمن أنّ هذا الكَوْن جاء بالصُّدْفة كمَن يؤمن أنّ هذه الكتب الآن جاءَت عن طريق انْفِجار مَطْبَعَة فالفِكْرَة أنّ الوُجود يَقْتَضي العِلْم. 

     هناك جُسور فيها منَبِّهات، إن زادَت الحُمولَة على الوزن المُقَرَّر فإنَّ رنيناً يُنَبِّهُك! هذا فِكْرٌ صَمَّم هذه التَّرْتيبات، فالإنسان إذا فَكَّر وجَدَ وراء هذا التَّصْميم عَقْلاً وعلماً.

     فالعَقْل البشري له مَبْدأ السَّبَبِيَّة، والغائِيَّة، وعدم التناقض، هذه مبادئ العَقْل وهي وَفْق مبادئ الكَوْن.

     ولأنَّ الفِعْلَ المُحْكَم المُتْقَن يَمْتَنِعُ صُدوره عن غير العالِم، ولأنَّ مِن المَخْلوقات ما هو عالِمٌ، ولأنّ العِلْمَ صِفَةٌ كمالٍ، ويَمْتَنِعُ ألاّ يكون الخالِق عالِماً، وهذا له طريقان، فهذا دليل عَقْلي، فَكُلّ شيءٍ مُتْقَن يَحْتاج إلى عِلْم .

     الطريق الأول: ما يُقال: نحن نعلم بالضرورة أنَّ الخالِق أعلم من المخلوق، وأنَّ الواجبَ ـ وهو الله ـ أكْمَل من المَخْلوق، ونَعْلَم ضَرورَةً أنَّنا لو فَرَضْنا شيئَين؛ أحدهما عالِم، والآخر غير عالِم كان العالِم هو الأكْمَل، فلو لم يكن الخالق عالِماً لَلَزِمَ أن يكون المُمْكِن أكْمل منه وهذا مُمْتَنِع. 

     والطريق الثاني أن يُقال: كلُّ عِلْمٍ في المُمْكِنات التي هي المَخلوقات فهو منه، ومِن المُمْتَنِع أن يكون فاعِلُ الكمال ومُبْدِعُهُ عارِياً منه، بل هو أحَقُّ به، والله تعالى له المَثَل الأعلى، فلا يَسْتوي هو والمَخلوقات، لا في قياس تمثيل، ولا في قياس شُمول، بل كل ما ثَبَتَ في مَخلوق من كمال فالخالِقُ به أحَقّ، وكل نَقْصٍ تنزَّه عنه مَخلوق ما فَتَنْزيهُ الخالِقِ عنه أوْلى.

     والله تعالى أثْبَتَ العِلْم المُطلق لِذاته فقال: 

{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} 

     درسنا اليوم هذه الفقْرة؛ خَلَقَ المخلوقات بِعِلْمِه، وأنا أرجو الله عز وجل أن تتَّجِهوا إلى معْرِفة عِلْم الله من خِلال التَّفَكُّر فيه لا مِن خِلال تَسْليط العَقْل على ذاته،    فطريق معرفة هذا العلم مخْلوقاته، وما سوى ذلك انْحِراف.



المصدر: العقيدة - العقيدة الطحاوية - الدرس (13-20) : خلق الخلق بِعلْمه