بحث

الله لا شيء يعجزه

الله لا شيء يعجزه

بسم الله الرحمن الرحيم

      أيها الأخوة المؤمنون، لا شيء يُعجزه لكمال قدرته، قُدْرته مُتَعَلِّقة بِكُلّ ممكن، فما هو الممكن؟ هو كل ما سوى الله؛ فذات الله واجبة الوجود.  

      أيها الأخوة الأكارم، قد تقول: هذا القاضي عادل، لكِنَّ عَدْل القاضي نِسْبي، وقد تقول: فُلان قَوِي، إلا أنّ قوَّته نِسْبِيَّة، أما إذا نسَبْتَ إلى الله القوّة والعدْل فهي القوَّة المُطْلقة، أُوَضِّحُ لكم هذه الحقيقة؛ قاضٍ قضى بين الناس أربعين عاماً، فأصْدر في هذه السنوات عشَرات القرارات، فإذا كان بين هذه الأحكام والقرارات والبالغة ـ مثلاً مئة حكم ـ قرار غير صحيح فإنَّهُ يُسَمَّى عند الناس قاضياً عادلاً! لأنَّ الأحكام التي تنْطبق على الإنسان أحْكام من نوع الأعمِّ الأغْلب، ولكن لو قلتَ: إنَّ الله عادل، فهي كلمة مُطْلقة، ولا تسْمح لك أن تعتقد طيلةَ عمر الأرض كُلِّها، وفي تاريخ البَشَرِيَّة جميعاً أنّ إنسانًا هُزِمَ حقّه، فصِفاته وأسماؤه تعالى مُطْلقة .  

      إذا قلْنا: لا يُعْجزه شيء، أيْ قُدْرته مُتَعَلِّقة بكُلِّ ممكن، وهذا إلى ماذا ينْقلنا؟ ينقلنا إلى أنَّ المُعْجزات التي وردت في القرآن الكريم يقف منها بعض ضِعاف العُقول موقف المُتَرَدِّد، يقول لك: هل يُعْقل ألاّ تحْرق النار؟! فلو عرفَ أنَّ قدْرته متعلِّقة بكُلِّ ممكن فسَتَقول: هذا مَعْقول، نحن لم نألَفْ في عاداتنا أنَّ النار لا تُحْرق، إلا أنَّهُ في عُقولنا ما دامت قُدْرة الله مُتَعَلِّقة بِكُلّ ممكن: كُنْ فَيَكون، فالبحْر أصبح طريقاً يبَساً! والنار؛ يا نار كوني برْداً وسلاماً على إبراهيم! فكلمة (لا يُعْجِزُهُ شيء) أنَّ قُدْرته مُتَعَلِّقَة بِكُلّ ممكن، وهذه تجعلنا لا نقف حيارى أمام آيةٍ قُرْآِنيَّة أشارتْ إلى خرْقٍ لِقَوانين الكَوْن .    فأهل الكهْف ليْسوا أنْبياء، بل هم مؤمنون، وكرامتهم أنَّهم لبِثوا في كهْفِهِم ثلاثمئة سنين وازْدادوا تِسْعاً، والسيِّدة مريم ليْسَت نَبِيَّة، إنما هي صِدِّيقَة، ومع ذلك أنْجَبَتْ مولوداً ذَكَراً من دون زواج؛ فهذا خَرْقٌ للعادات، فَكُلّما تَبَحَّرْت في معرفة قدْرة الله عز وجل رأيْت المعجزة أمراً طبيعياً مَحْضاً. قال الله تعالى:  

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾

      مرَّةً ثانية وثالثة ورابعة هذا العقْل البشري جهاز اسْتِدلال له مجال مُحدَّد، فَحيثما أعْمَلْتَهُ في مجاله المُحَدَّد أعْطاك نتائِج رائِعة، وما أرْوَعَها!! أما إنْ أعْملته في مجال آخر حَطَّمْتَهُ، ولم يُعْطِكَ شيئاً من النتائج، كالميزان المُحَدَّد ليزِن من خمْس غرامات إلى خمْسة كيلو غرام فإن وزَنْتَ به مئة كيلو غرام حَطَّمْتَهُ، فالعقْل كذلك مجاله المَحْسوسات، وهو بِشَكْل مُخْتصر جهاز ينقلك إلى المَحْسوس، إلى المُغَيَّب عنك، أبْسط مثل: رأيت وراء جدار دخانًا، فَعَقْلك يقول: لا دُخان بلا نار، فأنت لم ترَ النار، ولكن رأيت الأثر، ويجب أن تعتقد أنَّه ما دام هناك شيءٌ مادِيٌّ أمام عَيْنَيْك فالعقْل يعْمل، فإذا أدْخَلْتَ الأثر فإنَّ العقْل لا يعْمل، لذلك الشيء الذي لا أثر له، وليس هناك من سبيل لِتَصْديقه إلا الخبر الصادِق، فالآثار هي الكون، فإذا فَكَّرْت في الكون عَرَفْتَ الله عز وجل، أما إذا تَوَجَّهْت إلى ذات الله عز وجل وقلت: كيف يعْلم؟ ما طبيعة قدرته؟ كيف كان ولم يكن معه شيء؟ إذا خُضْتَ في هذا المجال أحْرَقْتَ هذا العَقْل ولم يُعْطِكَ أيَّة نتيجة، أحدُ أسْباب الهَلاك التَّفَكّر في ذات الله عز وجل.  

      قال بعض العلماء: عَقْلك حِصانٌ تَرْكبه إلى باب السُّلطان، فإذا دَخَلْتَ دَخَلْتَ وحْدك! أقرب مثل: إنسانٌ مريض معه قَرْحة، وحريصٌ على سلامة صِحَّتِه حِرْصاً لا حدود له، سأل عن طبيب شهير في أمراض الهَضْم، وسأل عن أحوال الطبيب؛  من  إخلاص، وشهادات، إلى أنْ هداهُ عقْله، واسْتِقراؤه، وأسْئلته، وكلام الناس، والتَّحْقيقات، إلى معرفة الطبيب بشكل كامل، فإذا دخل الآن إلى هذا الطبيب ينبغي أن يُعَطِّل عقْله، لماذا؟ لأنَّ عقْله هو الذي أوْصله إلى هذا الطبيب، فإذا قال له هذا الطبيب: اترك هذا الطعام، وقال المريض: لستُ قانِعاً بذلك، فقد أخطأ، فأنت كذلك عقْلك أوْصلك إلى الله، والله تعالى أوْحى إلى نَبِيِّه، فلو أردْتَ أن تُحَكِّم عقْلك في وحي الله تعالى لِنَبِيِّه الكريم فكأنَّك تُكَذِّب الله عز وجل.  

      أيها الأخوة الكرام، أقول ولا أُبالغ: إنّ أكثر المُشْكلات أَنَّهم نقلوا قَضِيَّة من الإخباريات إلى المَعْقولات.  ف أيّةُ قضِيّة تُعْرض عليّ فهذه إنْ كانت مِن المعقولات أُفَكِّر بها، وإنْ كانت مِن الإخباريات أُسَلِّم بها، كعالم الملائكة، والبرزخ، والصِّراط، والجنَّة، والنار، أمّا ذات الله فهذه الموضوعات لا يجوز أن تدخل في إطار البحث العَقْلي، والعقل ينتقل من الأثر إلى المؤثر، ومن الكون إلى المُكَوِّن، ومن النِّظام إلى المُنَظِّم، ومن الخلق إلى الخالق، وهذا هو كلّ ما في الأمر. قال الله تعالى:  

﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾



المصدر: العقيدة - العقيدة الطحاوية - الدرس (01-20) : لا شيء يعجزه