بحث

الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء

الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء

بسم الله الرحمن الرحيم

     يا أيها الأخوة، أنا مُضْطَرّ أن أعيد حقيقةً أساسِيَّة مُهِمَّة جداً، وهي أنّ العقل البشري حينما خلقه الله عز وجل جعل له حُدوداً لا يتَعَدَّاها، وهذا مِن كمال الصَّنْعة، فقد تصْنع ميزاناً وتكتب عليه: هذا الميزان يعْمل في دِقَّة بالغة إلى خمْسين كيلواً، فإذا حَمَّلْتَهُ فوق طاقته، فهذا الميزان يصاب بِالعَطَب، هل تتَّهِمُ الميزان أو صانِعَهُ؟ لا، بل أتَّهِمُ نفسي، فلو أنَّني حَمَّلْتُ عقلي قَضِيَّةً فوق العقْل، فلا أتَّهِمُ العقل بالقُصور، ولا أتَّهِمُ الصانِعَ بِصَنْعَتِه، ولكن أتَّهِمُ نفسي أنَّني كلَّفْتُهُ لِغَيْر ما خُلِقَ له، هذه فِكْرة دقيقة جداً، فالعقْل البشري لما أوْدعه الله في الإنسان أوْدعه من أجل أن نصِلَ به إلى الله، وفرقٌ كبير بين أن نَصِل به إلى الله وبين أن نُحيطَ بالله.    فإذا أردت أن تصل إلى الله فالعقل يكفي، أما إذا أردتَ أن تصل بِعَقلك إلى ذات الله تعالى؛ كيف خُلِق العالم مِن عدم؟ وكيف يعلم؟ فالعَقْل يعْجز. 

      قبل أن نمضي في هذا الدَّرْس أُحِبُّ أن أُحَدِّد بعض الاصْطِلاحات؛ الشيء الذي أخبرنا الله تعالى به فلك أن تُسَمِّيه الإخْبارِيَّات، أو المَسْموعات، أو المُسَلَّمات، أو دائرة الغَيْبِيَّات، أو التَصْديقات، فَكُلُّ هذه المُصْطَلحات مُؤَدَّاها واحد، أما الدائرة الأولى وهي دائرة المعقولات، أو المُشاهدات، أو الاسْتِدْلال، فالعقل مُرْتبط بهذه الأخيرة، أما الغيب فسبيل معْرِفَتِه الخَبَر، وذَكَرْتُ مَرَّةً دائِرَةً ودائِرَةً ودائرةً،  دائِرَةُ الشُّهود أداتُها الوحيدة الحواس الخَمْس، ودائرة الغَيْب أداتها الوحيدة الخَبَر الصادِق، وهناك دائِرَة بين بين، وهي ما غابت عَيْنُهُ وبَقِيَتْ آثارُه، فالشُّهود عَيْنُ الشيء وآثاره، والغيب غابَتْ عَيْنُهُ وآثارُه، أما الدائرة التي بين بين غابَتِ العَيْن، وبَقِيَتْ الآثار؛ إذًا حواس، عَقْلٌ، وخبر.  

      فالتَّفكّر في الدائرة الوُسْطى، والإحْساس في الدائِرَة الأولى، والتَّصْديق في الدائِرَة الثالثة. لذلك أكبر قضِيَّة نلْمَحُها هي الخلط بين مساحَةٍ مُخَصَّصة للأخبار الصادِقَة، ومساحةٍ مُخَصَّصة للمَعْقولات، أقول لكم دائِماً أيها الأخوة: يجب أن تُجيب عن سؤال أوَّلي؛ هل هذه القَضِيَّة مع المَعْقولات أو مع المَسْموعات؟ فإن كانت مع المَعْقولات فسَلِّطْ عليها عقْلك، ولا مانع، أمّا إن كانت مع المَسْموعات فالعَقْل لا دخْل له فيها إطْلاقاً! هي حَكَمٌ على العقْل، وليس العقل حَكَماً عليها، وليْسَت هذه الحقيقة التي أخْبرنا الله بها حَكَماً على العقْل، فأخْطر فِكْرة أن تكون قَضِيَّة مُتَعَلِّقة بذات الله، وهكذا أخْبرنا الله بها، أما إن أردْتَ أن تضَعَها على مِحَكِّ العقل؛ كيف يعلم الله عز وجل؟ وكيف أعْطاهُ اخْتِياراً والله تعالى يعْلم؟ فإذاً ينبغي ألاّ يعْلم، نكون بِهذا دَخَلْنا في متاهَةٍ لا تنتهي، نحن في الإخْباريات نتلقاها من الله عز وجل، ونُفَوِّض تفْسيرها، أو نُؤَوِّلها تأويلاً يليقُ بِكماله، أما في المعْقولات فلك أن تُحَكِّمَ عَقْلَك على هذه الحقائق، وسوف ترى لِهذا العَقل نتائِج باهِرَة جداً.  

      اِنْتَبِه فأنت حينما تُسَلِّط عقْلك على شيء أخْبَرَك الله به إنَّما تتَّهِمُ المُخْبِر وتتَّهِمُ الله عز وجل، لكن حينما تُعَطِّل عقْلك عن شيء دعاك الله تعالى إلى التَّفْكير به فأنت تعْصي ربَّك.   

      الآن، إيَّاك أن تنقل قضِيَّة من مكان إلى مكانٍ، ففي هذا خطر! هذه قَضِيَّة مع الإخباريات فأجعلها مع العَقْلِيات! وأسَلِّط عليها عقلي، وأُمَحِّص والأسباب؛ كلّ هذا كلام فارغ! قال تعالى:  

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾

      ففي المحسوسات ربَّما اشْترك بعض المخلوقات معنا، وفي الدائرة الثانِيَة ينفَرِدُ بها الإنسان، والدائرة الثالثة ينْفردُ بها المؤمن.  

     فالنُّقْطة الدقيقة في هذا الدرس أنّ الحديث عن ذات الله هو من الإخباريات ونكْتفي بما أخبرنا الله به، ودون أن تُسَلِّط عقلك في هذه الموضوعات، وإنَّ عدم تسْليط العقل على هذه الموضوعات هو قِمَّةُ العِلْم، فلا تظنّ أنَّهُ لا بدّ أن تعرف كُلَّ شيء.

     فهل يُمْكن لِمَخْلوق حادِث أنْ يُحيط بالقديم؟! وهل يُمكن لِنَمْلة على سطح جبل هيمالايا، وقد أوتِيَتْ إدراكاً لِتَحْصيل طعامها فقط، فهذه النَّمْلة هل بِإمْكانها أن تُحيط بالجبل؟! ومُكَوِّنات تُربته، وصُخوره، ووزْنِه، وحجْمه! هذا شيءٌ مُسْتحيل، فهذه الحقيقة إذا تَمَثَّلْتموها لشَعَرْتُم بِرَاحة لا تُقَدَّر بِثَمن.

     الله تعالى ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صِفاته، ولا في أفعاله، إلا أنَّ هذا الكلام يعني أنّ خصائص الربّ تعالى لا يوصف بها شيء من مخلوقاته، فعِلْم الله وقدرته غير علمِ وقدرة المخلوقات، ولا يُماثله شيء من صفات مخلوقاته، لا المخلوقات تُماثل صفاتُها صفاتِ الله، ولا صِفات الله عز وجل يُمكن أن توصَفَ بها مخلوقاته.  

      إنسانٌ حيّ، تقول: فلان حيٌّ يُرْزق، والله تعالى حيٌّ لا تأخذه سِنَة ولا نوم، فيجب أن تعتَقِد اعتِقاداً قاطِعاً أنّ حياة الله غير حياة الإنسان، تشابَهَا في الاسم فحسب، فالله عز وجل رَحْمَةً بنا قَرَّب لنا معنى الجنَّة فقال: فيها أنهار من ماء، وجنات، وعسل مُصَفى، ولبن لم يتغيَّر طعْمه، فيا تُرى ما العلاقة بين خمْر الدنيا وخَمْر الآخرة؟ لا علاقة بينهما إلا الاسْم، وكذا اللَّبن، والعسَل، فليس ما في الدنيا وبين ما في الجنَّة علاقة إلا الاسْم، كذلك إذا قلنا: الله تعالى حيّ قَيُّوم، وإذا قلنا: هذا إنسانٌ لا يزال حيًّاً يُرزق، فهل حياة الإنسان كَحَياة الله؟ لا، هذا هو مِحْور الدّرْس، فالنُقْطة الدقيقة أنَّ الله تعالى سَمَّى نفْسه بِأسْماء وسَمَّى صِفاته بِصفات، وأطْلَقَها على بعض عباده في القرآن الكريم، والمعْلوم القَطْعي أنَّ الحَيَّ لا يُماثِلُ الحيَّ الآخر، فالله تعالى حَيّ والإنسان كذلك، إلا أنَّهُ شتَّان بين الحياتين! وكذلك يُقال في العزيز والعليم وسائر الأسْماء، قال تعالى:  

﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾

      معنى ذلك أنَّ عِلْم الله تعالى غير عِلْم البشر.  



المصدر: العقيدة الطحاوية - الدرس (04-20) : الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء