أَيُعْقل أن يقع في كون الله شيء ما أراده الله؟!
أيها الأخوة، لو أنَّكم عَقَلْتم هذه الحقيقة لكانت هذه الحقيقة برْداً وسَلاماً على قُلوبكم؛ أيُّ شيء وقع في الكون أراده الله، وأيُّ شيء أراده الله وقع، ولا يكون إلا ما يريدُ.
إلا أنَّ بعض الناس زَعَموا أنَّ الله تعالى أراد الإيمان من الناس إلا أنَّ الكافر أراد الكُفْر! ماذا يوحِي هذا الكلام؟ أنَّ الكافر أراد شيئاً ما أراده الله تعالى، وهذا لا يليق بِعَظَمَة الله عز وجل، فلو أنَّ إنساناً مُتَمَكِّناً في دائرة، وجاء مُوَظَّف عنده، أو أحد صُنَّاعِه، وفعل شيئاً خِلاف أوامرِ هذا الإنسان العظيم لأنكر عليه كل الإنكار، فالله تعالى لا يقع في كونه إلا ما يريد،
وآخرون زعموا أنَّ الإنسان مُجْبرٌ على أفْعاله، فما هو الحق؟ فالذي يحْصل في الأرض من مشاكل، وقتْل، وانْتِهاك للأعْراض، وفساد، وظلم، هل أراده الله تعالى؟ فإذا قلتَ: أراده، فَلِمَ أراده؟ وإذا قلتَ: ما أراده فَلِمَ وقع؟
الشرّ المطلق غير موجود، والشرّ للشرّ كذلك غير موجود، لو أنَّ أباً وابنه اتفقا على إجراء عَمَلِيَّة جراحية، فإنّ الطبيب الجراح لا يمكن أن يفتح بطْن ابنه إلا بموافقة الأب، وفَتْحُ البطْن شرّ إلا لإجْراء عَمَلِيَّة لشفاء ابنه، فلا يكون هذا الأمر إلا لِهَدَفٍ نبيل جداً، كاسْتِئْصال عضوٍ تالف، فهذه أوَّل قاعِدَة، شرّ مُطْلق لا يمكن أن يكون، أما الشرّ النِّسبي فَمَوْجود. فلا يُمكن أن نفهم ما يجْري في الأرض من شرّ إلا وَفْقَ هذه الحقيقة، إلا أنَّك قد لا تعرف ما وراء كلّ حادِث.
كنت أسير مرَّةً في أحد أسواق دمشْق، فاسْتَوْقفني أحد المارَّة، وقال لي: فلان الفلاني جاء إلى مَحَلِّه التِّجاري لِيَكْسب قوت أولاده، فَسَمِع إطلاقَ نارٍ، وكان اثنان يتشاجران، فَمَدَّ رأسه فجاءَت رصاصةٌ في عموده الفقري، وأصبح مشْلولاً من حينه، فقال لي هذا الأخ: وما ذَنْبُه؟ ولماذا فُعِلَ به هكذا؟ فقلتُ: لا أدْري، وبعد حينٍ أخٌ كريم قال لي: هناك رجل يسْكن في الحيّ الفلاني، وله أوْلاد أخ أكل أموالهم بالباطل، وقد احْتَكَموا إلى أحد العلماء فلما طولب بما عليه لأولاد أخيه رفض! فَتَوَجَّه هذا العالم إلى أولاد الأخ، وقال لهم: إياكم أن تشْتكوا على عَمِّكم، فهذا لا يليق بكم، ولكن اشْكُوه إلى الله تعالى! فهذا الكلام تَمَّ في الساعة الثانِيَة ليلاً، ففي الساعة الثامِنَة صباحاً أصْبح مَشْلولاً. فَيَجب أن تعلم أنّ كل شيء وقع وراءه حِكمة، سواء عَرَفْتها أم لم تعْرفها.
إنَّ الله وإن كان يريد المعاصي قَدَراً فهو لا يُحِبُّها، ولا يرْضاها، ولا يأمر بها، وهنا سؤال: لماذا أراد؟ مثَلاً، صَيْدلي يريد مُوَظَّفاً، إلا أنَّ هذا الموظَّف لا بدّ أن يكون على مُسْتوى رفيع، فأعلن عن مُسابقة، والامتِحان سَهل، ترتيب الفيتامينات في مكانها، وكذا السموم، فلو أمْسَك هذا الممتحن الفيتامين ليضعه فوق السموم لَوَجدْتَ أنَّ الذي أقام الامْتِحان لا يمْنعه! لماذا؟ لأنَّه الآن يمْتَحِنُه، ويُعْطيه الفرصة للتعبير عن علمه أو عن جهْلِه، فالله عز وجل إذا قلنا: أراد أي سَمَح، ولماذا سَمَح؟ لأنَّه أعْطاك الاخْتِيار، وهو الآن يمْتَحِنُك، أما لو مَنَعْتَ إنساناً في أثناء الامْتِحان، فقد ألْغَيْت امْتِحانه، فهو أراد، أي سَمَح، وسمَح لأنَّهُ يمْتَحِنُك، وإذا ألْغى حركتك في الامْتِحان فقد ألغى امْتِحانك، وأنت جئت للدنيا لِتُمْتَحن.
فالله تعالى لا يُحِبُّها، ولا يرْضاها، بل يُبْغِضُها، ويسْخطها، ويكْرهها، وينْهى عنها، إذا ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وإنَّ الإنسان إذا اسْتَحكَمت به الشَّهوة وأصَرَّ عليها، أصْبَحَت هذه الشَّهْوة حِجاباً بينه وبين الله، فلَعَلَّ الحِكْمة أن ينطلق إليها كي تفْرغ نفْسه، وكي يأتي العِقاب على أثر هذه الشَّهْوة التي أصرَّ عليها، وحتى تفرغ نفْسه من هذه الشَّهوة، ولله تعالى في خلقه شؤون.
ماذا يريدُ الله عز وجل؟ الخير، والسعادة، والتوبة، والفلاح، والنَّجاح، فهذه إرادة الله تعالى الدِّينِيَّة الشَّرْعِيَّة. أما إرادة الله تعالى التَّكْوينِيَّة فَمُتَعَلِّقَةٌ بِمُعالَجَةِ الإنسان، أحْياناً تفْعل شيئاً يتناقض مع حياتك، زوْجان مُتخاصِمان، وكل يوم في مُشْكِلَة، فلو أنَّهما احْتَكما إلى قاضٍ شرعي ليَحْكم بينهما ويُفَرِّق بينهما إلى أمَدٍ حتى يعْرف كل منهما قيمة الآخر فالقاضي فَرَّقَ لِيَجْمع، فالله تعالى له إرادة شرْعِيَّة، أما إذا أراد بِمَعنى سَمَح، كأن يسمح الله لإنسان أنْ يزْني، أو أن يسْرق، فقد سَمَح له تطْهيراً، وتأديباً، وامْتِحاناً.
فهناك إرادتان: تَكْوينِيَّة أو تشْريعِيَّة، أو أن نقول: هناك أمر تكليفي وآخر تكويني، فالتَّكْليفي أمرك بالطاعة، أما التكويني فقد سمح لك أن تعْصِيَهُ لِحِكْمةٍ بالغة لا تعرف قيمتها إلا بعد حين، لذلك كلّ شيء وقع أراده الله، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله تعالى مُتَعَلِّقة بالحكمة المطلقة، وحكْمته المطلقة مُتَعَلِّقة بالخير المطلق، قال تعالى:
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
هذه الفِكرة لو اسْتوعَبَها الإنسان لَمَلأت قلبهُ طمأنينةً واسْتِقْراراً، ويقيناً وراحَةً، فأنت اِفْعَل ما تشاء لكن إياك أن تتَّهِمَ الله عز وجل، لأنَّ هناك كوناً خلَقَه الله عز وجل، ولأنّ هناك أفعالاً يفْعلها، فإذا أردتَ أن تنظر في أفعاله قبل أن تنظر في كونه فقد لا تصِلُ إليه وتُسيء الظنَّ به، أما لو نَظَرْتَ إلى خلقه أوَّلاً لامْتلأت نفسك تعْظيماً له، فإذا نظرْتَ إلى أفعاله لعلَّ النظر الأوَّل ألْقى على النَّظر الثاني ضَوْءاً كاشِفاً، فأنا أريد أن نُفَكِّر في الكون قبل التفكير في الحوادِث لأنَّ التفكير في الحوادِث حقل ألغام، أما لو فَكَّرتَ في الكون لعرفْتَ الخالق، وتقول هذه المقولة: عظمة الخلْق تدلّ على كمال التَّصرُّف، فابْدأ بالكون، ثمَّ انْظر إلى أفعال الله عز وجل.