أيها الأخوة الكرام، لماذا نتحدث عن أسماء الله الحسنى؟ ولماذا ينبغي أن نعرف أسماء الله الحسنى؟ وأن نعرف مدلولاتها وأبعادها؟ وما تستوجب علينا من سلوك؟
لأن الإنسان إذا اكتفى بأن يقول: الله خالق السموات والأرض، و لم يشعر بحاجة إلى المزيد عن الله عز وجل، إلى معرفة المزيد عن الله عز وجل، كيف أن الله رحيم، و كيف أن الله حكيم، وكيف أن الله قوي، و كيف أن الله غني، إن لم يشعر بحاجة إلى معرفة المزيد عن أسماء الله و صفاته، و لم يشعر بحاجة إلى أن ينصاع إلى أمره، و أن يحتكم إلى شرعه، فمثل هذا الإنسان قد يتخذ من دون الله أولياء، ثم يقول:
﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾
هذا الذي يكتفي أن يؤمن أن الله خلق السموات والأرض، ولا يشعر بحاجة إلى أن يأتمر بأمره، و لا أن ينتهي عما عنه نهاه، و لا يحتكم إلى شرعه، هذا قد يعيش مشركاً، ويتخذ من دون الله أولياء.
أيها الأخوة الكرام، أنت إن علمت أن الله هو الرزاق، لن تنافق أَحدًا، لن تيئس، لن تتطامن، لن تتضعضع أمام غني، من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه، لو علمت أن الله هو الرزاق و لن ينساك من فضله، و لك عنده رزق.
إن علمت أن الله هو العليم تستحي أن تعصيه، لا تنظر إلى صغر الذنب و لكن انظر على من اجترأت، عليك أن تراقب نفسك مراقبة دقيقة، إن علمت أن الله يعلم فلا بد أن تستقيم،
أن تعلم أن الله يعلم، فهذا أكبر باعث على طاعته والاستقامة على أمره .
إن علمت أن الله على كل شيء قدير فلن تضعف أمام مرض عضال، و لا أمام مصيبة كبيرة، فأنت تعرف أن الله على كل شيء قدير.
لعل انعكاس معرفة أسماء الله الحسنى، و صفاته الفضلى في النفس البشرية شيء لا يصدق، إن عرفت أن الأمر بيده وحده، لا تطمع بما عند إنسان، و لا تذمه على ما لم يعط، إن علمت أن الله وحده هو المتصرف لا ترجو سواه، لا تعقد الأمل على غيره، لا تتكل على غيره، لا تتأمل بغيره، معرفة أسماء الله الحسنى و صفاته الفضلى لها انعكاس لا يُصدق على سلوك الإنسان، ما من خلل في السلوك إلا بسبب ضعف في معرفة كمالات الله عز وجل .
وبعد، فمستحيل وألفِ ألف ألف مستحيل أن تعرفه ثم لا تحبه، ومستحيل و ألف ألف ألف مستحيل أن تحبه و لا تطيعه، العقبة أن تعرفه، فإن عرفته عرفت كل شيء، و إن فاتكَ فاتك كل شيء . هذا القول يذكِّرنا بقول بعض العلماء: "من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، و أن تسمع داعية ثم تتأخّر عن الإجابة، و أن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، و أن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، و أن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأُنس بطاعته، و أن تذوق عصرةَ القلب عند الخوض في حديث غير الحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره و مناجاته، و أن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره و لا تهرب منه لنعيم الإقبال عليه و الإنابة إليه، و أعجب من هذا علمُك أنه لا بد لك منه، و أنك أحوجُ شيء إليه و أنت عنه معرض، و فيما يبعدك عنه راغب " هذا من أعجب الأشياء .
قال الله تعالى:
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾
أي لك أن تقول: يا هادي، يا دليلي اهدِني إلى صراطك المستقيم، يا رزّاق ارزقني، يا قوي انصرني، أسماء الله كلها حسنى، وكل اسم أنت في أمس الحاجة إليه في موطنه، ففي موطن الضعف تقول له: يا قوي، و في موطن الفقر تقول له: يا رزّاق، و في موطن التيه، تقول له: يا هادي اهدني إلى صراطك المستقيم، أنت في أي ظرف تحتاج إلى نصر، وما النصر إلا من عند الله، تحتاج إلى علم، يجب أن تعلم علم اليقين أن الله وحده هو الذي يتفضل عليك بمعرفته، هذا طرف من معنى قوله تعالى.
لبعض العلماء رأي آخر هو أنه لن تستطيع أن تقبل عليه إلا بكمال مشتق من كماله، إن أردت رحمته فارحم خلقه، إن أردت أن ينصفك من خصمك فكن أنت منصفاً، إن أردت أن يتلطف بك، فكن أنت لطيفاً بالخلق، إن أردت أن يمنحك من عطائه فكن أنت كريماً، لن تستطيع أن تقبل عليه إلا بكمال مشتق من كمالاته. اتخذْ من الكمال الذي تتصف به هذه الأسماء وسيلة للإقبال على الله .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا كُلَّهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ))
قال بعض العلماء: من أحصاها فقد استوفاها، يريد ألاّ يقتصر على بعضها، ولكن يدعو الله بها كلها، و يثني عليه بجميعها، لا تختر من هذه الأسماء بعضها فقط، فأسماؤه كلها حسنى، حتى إذا توهّمت بنقص علمك أن الله منتقم، ما معنى منتقم؟ هو الذي يوقف الظالم عند حدِّه، ينتقم منه رادعاً له رحمة بالآخرين، يجب أن توقن يقيناً قطعياً أن أسماء الله كلها حسنى، و أن صفاته كلها فضلى .
وقال بعضهم: " من أحصاها " من أطاق القيام بحق هذه الأسماء، ومن عمل بمقتضاها، وهو أن يعقل معانيها، وأن يلزم نفسه بواجباتها فقد أحصاها .
و المراد بالإحصاء أيضاً الإحاطة بمعانيها، و قال بعض المفسرين: المرجو من كرم الله تعالى أنه مَن حصل له إحصاء هذه الأسماء على إحدى هذه المراتب مع صحة النية فله أن يدخله الله الجنة، و هذه المراتب الثلاث؛ مراتب السابقين و مراتب أصحاب اليمين و مراتب الصدِّيقين .
قيل: " أحصاها " عرفها، لأن العارف بها لا يكون إلا مؤمناً.
وقيل: " أحصاها " يريد بها وجه الله وإعظامه، فإذا قال: "الحكيم " سلَّم بأن كل ما يقع في الكون حكمة مطلقة، إذا أراد الله شيئاً وقع، و إذا وقع الشيءُ أراده الله، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، و حكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق، بل إن المؤمن يعتقد إذا قال اسم الحكيم أن لكل واقع حكمة و لو كان الموقع مجرماً، ولو كان الموقع فاسداً، و لو كان الموقع مخطئاً، ما دام الله قد سمح له أن يقع إذًا هو حكمة بالغة . مَنْ قَال: "القدُّوس" يجب أن ينزِّه الله عن كل نقص، عن كل شيء يشير إلى النقص، يقول: سبوح قدُّوس، ربُّ الملائكة و الروح.
و يقول بعض العلماء: " أحصاها " أي سلك طريق العمل بها، فعلى العبد أن يسعى كي يتّصف بهذه الكمالات التي هي منهجه وطريقه إلى الله، أي تخلّق بهذه الكمالات التي تشف عن أسماء الله الحسنى كي تكون وسيلة لك في الإقبال على الله والدعاء له . ثم إن بعض العلماء فصّل في ذلك، قال: أولاً: الأسماء التي يتصف الله بها، و يمكن للعبد أن يشتق كمالها من الله، تقول: الله رحيم، و بإمكان المؤمن أن يرحم من حوله، فهذه ينبغي أن يتخلق بكمالاتها، وما كان مختصًّا بالله تعالى كالجبّار والعظيم فيجب على العبد أن يقرَّ بها و يخضع لها و ألاّ يتحلّى بها.
وقيل: " أحصاها"، حِفْظها. و معنى الإحصاء أيضاً أن تؤمن بها، و تعظِّمها، و أن ترغب فيها، و أن تعتبر بمعانيها، و قال بعضهم: ليس المراد بالإحصاء أن تعدّها عدًّا، لأنه قد يعدها الفاجر، و إنما المعنيُّ بالإحصاء بشكل مختصر أن تعمل بها .
ولبعض العلماء رأيٌ آخر، معنى " أحصاها " أن تتبعها في الكتاب و السنة حتى تَحْصل عليها، و قد حدّدها النبي بتسعة و تسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة.
أيها الأخوة الأكارم، معرفة الأسماء الحسنى والصفات الفضلى جزء أساسي من العقيدة، والعقيدة كما تعلمون أخطر شيء في الدين، لأنه من فسدت عقيدته فسد عمله، ومن فسد عملُه استحق شقاء الدنيا و عذاب الآخرة، الخطأ في العقيدة لا يصحّح، و صاحبه لا يتوب لأنه مستكبر، كما أن الخطأ في الميزان لا يصحح، لو وزنت بميزان فيه خطأ في أصل تركيبه، لو وزنت به مليون وزنة، فكلها خطأ، أما الخطأ في الوزن فلا يتكرر، فرق كبير بين الخطأ في الميزان، و بين الخطأ في الوزن، الخطأ في الميزان لا يصحح، بينما الخطأ في الوزن لا يتكرر، الخطأ في السلوك سهل أن تتوب منه، أما الخطأ في العقيدة فصعب أن تدعه، لذلك احذر ألف مرة مِن أن تعتقد عقيدة ليست صحيحة، و ما من عقيدة غير صحيحة إلا انعكست سلوكاً غير سليم، لو أننا سلّمنا جدلاً أنه لا علاقة للعقيدة بالسلوك فاعتقد ما شئت، ولكن لتعلم أنه ما من عقيدة فاسدة أو منحرفة إلا انعكست سلوكاً فاسداً منحرفاً، لذلك كان أخطر شيء في الدين على الإطلاق هو العقيدة، فقد يمرق الإنسان من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، و يبالغ في بعض العبادات، فقد تحتقر صلاتك أمام صلاتهم، فمروقهم من الدين ناتج عن فساد عقيدتهم، فضلُّوا سواء السبيل.
يا أيها الأخوة الكرام، أسماء الله حسنى، و صفاته فضلى، فأيُّ شيء يصل إليكم، ويتضح منه ظلمٌ فهذا شيء مردود، لأن الله سبحانه و تعالى له الأسماء الحسنى، أن يخلق الله عبداً، وأن يجبره على الكفر، و أن يضعه في جهنم إلى أبد الآبدين، من دون ذنب منه إلا أن الله قدّر عليه الكفر، هذا يتناقض مع أسمائه الحسنى، جاء سيدَنا عمر رجلٌ شارب خمر، فقال: أقيموا عليه الحد، قال: واللهِ يا أمير المؤمنين إن الله قدّر عليّ ذلك، فقال رضي الله عنه: أقيموا عليه الحدّ مرتين؛ مرة لأنه شرب الخمر، و مرة لأنه افترى على الله، قال: ويحك يا هذا إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار، من توهّم أن عبداً مؤمناً يطيع اللهَ طوال حياته، وفي آخر عمره تزل قدمه فيكون من أهل النار من دون ذنب من العبد، ومن دون سبب منه، من يقول بهذا لا يعرف الله عز وجل، ومن ظنّ أن الله يضع الذين ناصبوه العداء طوال حياتهم في الجنة، و يضع الذين أفنوا حياتهم في طاعة الله في النار فهو لا يعرف الله، لأن هذا يتناقض مع أسماء الله الحسنى، من ظنّ أن الإنسان يضيع عمله بلا سبب، لأن الله شاء له ذلك، فهو لا يعرف الله، وهذا يتناقض مع أسماء الله الحسنى، ينبغي أن يكون فهمك عن الله فهماً صحيحاً، ينبغي أن تنزِّهه عن كل نقص، ينبغي أن تصفه بكل كمال، إياك أن تقبل قصة تتهم الله بالظلم، إياك أن تفهم، أو أن تقبل قصة تسيء إلى الذات الإلهية.
أيها الأخوة الكرام، الملخّص أنه لا ينبغي أن تكتفي بأنْ تعرف أنّ الله خلق السموات والأرض، بل ينبغي أن تطلب المزيد من معرفته فتبحث في أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، و انعكاس معرفة أسمائه الحسنى و صفاته الفضلى على سلوك المؤمن واضح وجليٌّ و صارخ، إن كل اسم تستوعبه و تستوعب مدلوله و تعمل بمقتضاه ينقذك من مرض نفسي، ينقذك من أن تنافق، من أن تيئس، من أن تخاف، من أن تستخذي، ولا بد من أن تكون منعكسات هذه الأسماء الحسنى و الصفات الفضلى على السلوك منقطعة النظير.