أيها الأخوة، الله عز وجل له صِفات، وله صِفات أفْعال، يا ترى قبل أن يفْعَلَ ما يفْعَل لم يَكُنْ مُتَّصِفاً بِهذه الصِّفات؟ فَكَلِمَة (خالِق)، مثلاً قبل أن يَخْلُقَ العالَم ألم يكن خالِقًا؟
الله عز وجل لم يَزَل مُتَّصِفًا بِصفاتهِ قبل خلْقِه، فَهُوَ تعالى خالِقٌ قبل أن يخْلُق، ومُتَكَلِّمٌ قبل أن يتكَلَّم، مُعْطٍ قبل أن يُعْطي.
الوَهْم الخطير الذي تَوَهَّمَهُ بعضهم قال: إنَّ الله تعالى صارَ قادِراً على الفِعْل والكلام بعد أن لم يَكُن قادِراً عليه، لِكَوْنِهِ صار الفِعْل والكلام ممكنًا، بعد أن كان مُمْتَنِعاً، وأنَّه انْقَلَبَ مِن الامْتِناع الذاتي إلى الإمْكان الذاتي، أي إنَّ الفِعْلَ صارَ مُمْكِنًا بعد أن كان مُمْتَنِعاً منه، إذًا كيف تَوَصَّل هؤلاء إلى هذا الوَهْم؟
قالوا: إنَّ دوام الحوادِث مُمْتَنِع...
طبْعاً الإنسان يفْعَلُ شيئًا وينتهي الفِعْل، فَدَوامُ الحوادِث مُمْتَنِع، أنت تَصْنَع طاوِلَة وينتهي صُنْعُها! لم تَكُنْ مَصْنوعَة ثمَّ صُنِعَت، وانتهى صُنْعُها، فَما دام الشيء الحادِث لهُ بِداية وله نِهايَة.
قالوا: إنَّ دوام الحوادِث مُمتنِع، وإنَّه يجب أن يكون للحوادِث مَبْدأ، لامْتِناع حوادِث لا أوَّل لها، فَيَمْتَنِعُ أن يكون الباري عز وجل لم يَزَل فاعِلاً مُتَكَلِّماً بِمَشيئتِه، فَيَسْتحيل على الله أن يكون دائِماً فاعِلاً، ودائِماً مُتَكَلِّماً، بل يَمْتَنِعُ أن يكون قادِراً على ذلك، لأنَّ القُدْرَة على المُمْتَنِع مُمْتَنِعَة، هذا هو الوَهْم الخطير الذي تَوَهَّمَهُ البعض.
فالشيء الحادث ليس قديماً، سَبَقَهُ عَدَم فله بِدايَة، وليس مُسْتَمِراً أي ينتهي وما دام الحادِثُ مُنْتَهِياً، والله عز وجل هو الذي خلق هذه الحوادِث فَفِعْلُهُ له بِدايَة وله نِهايَة، قبل البداية وبعد النِّهايَة، اِمْتَنَعَ عليه أن يفْعَل فَكَيْفَ نحلُّ هذا الإشْكال؟
إنّ هذا فاسِد، لأنَّه يدلّ على امْتِناع حُدوث العالَم، وهو حادِث! والحادِث إذا حدَثَ بعد أن لم يَكُن مُحْدَثًا فلا بدّ أن يكون مُمْكِنًا. فالإمكان شيء، والحُدوث شيء، فأنا مَثَلاً دائِماً بِإمكاني أن أنقُل هذا الكأس مِن هذا المكان إلى ذاك المكان، فقد نَقَلْتُه في وَقْتٍ مُعَيَّن، وقبل أن أنْقُلَهُ فأنا قادِر عليه، وبعد أن نَقَلْتُه أنا قادِر عليه، فأنا دائِماً يُمْكِنُني أن أفْعَلَ ذلك، لَكِنّ الفِعْل مرتبط بِوَقْت مُعَيَّن، ومكان مُعَيَّن، فالإمْكان يعني أنَّ الله عز وجل دائِماً قادِر على أن يفْعَل ما فَعَل؛ قبل أن يفْعَل، وبعد أن يفْعَل فهو قادِرٌ على فِعْل ما فَعَل، فالقُدْرة المُسْتَمِرَّة تُلْغي معنى الحُدوث الطارئ فيما هو خَلَقَهُ عزَّ وجل.
إذا لا بدّ أن يكون مُمْكِنًا، والإمكان ليس له وَقْتٌ مُحَدَّد، أما الحُدوث فَلَهُ وَقْت، وما مِن وَقْتٍ يُقَدَّر إلا والإمكان ثابت فيه، مهما أَغْرَقْتَ في القِدَم، ومهما أغْرَقْتَ في المُسْتَقْبَل فإنّ الله سبحانه وتعالى قادِرٌ على أن يَفْعَلَ الذي فَعَلَهُ.
فليس لإمكان الفِعْل، وجوازه، وصِحَّتِه مَبْدَأٌ، ولا نِهايَة، فالله عز وجل كامِلٌ في قدْرَتِه، والعالَم حادِث، أما الله تعالى فهو قادِر على كُلّ مُمْكِن، والعالَم مِن المُمْكِن، فَقَبْلَ أن يخْلِقَهُ فهو قادِرٌ عليه، وبعد أن خَلَقَهُ فهو قادِرٌ على مِثْلِهِ، فَقُدْرَتُهُ ليْسَت مُمْتَنِعَة، بل مُسْتَمِرَّة، أما الحادِث فلم يُسَمَّ حادِثًا إلا لأنَّ له بِداية، وله نِهايَة، فَيَجِب إذاً أنَّهُ لا يزال الفِعْل جائِزاً مُمْكِنًا صحيحاً، فَيَلْزَمُ أنَّه لا يزال الربّ قادِراً عليه، فَيَلْزَمُ جواز حوادِثَ لا نِهاية لأوَّلِها.
فالله تعالى له أفعال، وأفْعاله حوادِث، وسَبَقَها عَدَم، وانْتَهَت، إلا أنَّ الله عز وجل قادِرٌ دائِماً على كُلّ مُمْكِن. ثمَّ إنَّ أسماء الله تعالى وصِفاتُه قديمةٌ قِدَمَ وُجودِه، وكان الله عليماً، وكان الله على كلّ شيء قديراً، فَقُدْرَتُه لا تنْفَكُّ على وُجودِه، فَهُوَ تعالى مَوْجود، وهو تعالى قادِر، وأسماؤُهُ كُلُّها قديمة أزَلِيَّة أبَدِيَّة، فالحادِث سَبَقَهُ عَدَم، وينتهي بِعَدَم، أما الله تعالى فقادِر على كُلّ مُمْكِن، فالقُدْرَة على المُمْكِن ليس لها وَقْت، فَهِيَ مُمْتَدَّة في القِدَم ومُمْتَدَّةٌ في المُستَقْبَل.
متى قلتَ: الله، أي لا بِداية ولا نِهاية! والزَّمن خالِقُه الله تعالى، والمُشْكِلة أنَّ القَضِيَّة تَفوق العُقول، وعندما يريد العَقْل الحادِث أن يفْهَم الذات الإلهِيَّة، والأبَدِيَّة السَّرْمَدِيَّة، فهذا شيء فوق طاقَتِه، لكن إذا قلت: (الله) عز وجل كان المعنى ألاّ بِدايَة له، فإذا قُلْتَ: له بِدايَة أصْبَحَ حينئذٍ مَخْلوقًا! فَكَلِمَة حادِث أي سَبَقَهُ عَدَم، وينتهي بِعَدَم، فإذا قلتَ: متى كان الله عز وجل؟ نقول لك: ومتى لم يَكُن؟! والحديث عن ذات الله عز وجل نُفَوِّض للَّه، والحقيقة المُطْلَقَة عن الله لا يعلمها إلا الله تعالى. فالله تعالى خلق العالم قبل مليار سنة، وهو تعالى قادِر على خلقه قبل مليار مليار سنة! وقبل ذلك، والله عز وجل دائِماً قادِر على خَلْق العالم، إذاً فقُدْرَتُه تعالى لا علاقة لها بالزَّمَن، بل إنَّ الزَّمَن بعض خلقِه.
الفرْق كبير بين أن يكون الإنسان مُحاطاً بالزَّمان والمكان، وبين أن يكون الله عز وجل هو خالقَ المكان والزَّمان، فَيَلْزَمُ دوام الإمكان، وإلا لَلَزِم انْقِلاب الجنس، فالإمكان مُسْتَمِرّ، وإلا للَزِم انقِلاب الجِنس من الامْتِناع إلى الإمكان، مِن غير حُدوث شيء، فأنت إذا قلتَ: لم يكن الله تعالى قادِراً، ثمَّ أصْبَحَ قادِراً، يُمكن أن نَنْفي العالم كلَّه بهذه المَقولة! فما دام الله تعالى غير قادِر فَكَيف خلق العالم؟! فالله تعالى دائِماً قادِر على خَلْق العالم، وخلقهُ في وَقْتٍ مُعَيَّن، وقُدْرَتُهُ على الخَلْق لا علاقة لها بالزَّمَن، أما الحُدوث فله زَمَن، وسَبَقَهُ عَدَم، وينتهي إلى عَدَم، أمَّا الإله مع أنَّه خلق فلا يجوز أن نقول: قبل أن يخْلُق كان مُمْتَنِعاً على الخَلْق، أو غير قادِرٍ على الخلْق.
عندنا شيء اسمه التَّسلسل، وهو أن تقول: هذه الدَّجاجة من هذه البيْضَة، والبَيْضة من الدجاجة، فهذا إلى متى؟ العَقْل لا يقبل هذا التَّسلسل اللاَّنِهائي، فلا بدّ مِن خالِقٍ خلق أوَّل دجاجة، ثمَّ بدأتْ دجاجة وبيضة الخ... فالتَّسَلسل مُمْتَنِع في الماضي، والتَّسلسل مُمْتَنِع في المستقبل، إلا أن يكون تسَلْسلُ الماضي ينتهي بالله عز وجل، وأن يكون تَسلسل المُستقبل ينتهي بالله عز وجل، فالله عز وجل قادِر أن يخلق في الجنَّة كلّ يومٍ شيئاً جديداً إلى ما لا نِهاية، إلا أنّ آخر شيء هو ذاتُه، فالتَّسلسُل من دون إله مُمْتَنِع، أما إن كان الله تعالى هو الأوَّل، وبعده خَلْقٌ مُتَسَلْسِل فهذا مُمْكِن، هو الآخر وقبله خَلْق مُتَسلسل فهذا مُمْكِن .
هناك رأيٌ دقيق عن التَّسَلْسل، قال: وهو أيْضاً انْقِلاب الجِنْس مِن الامْتِناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي، فإنّ ذات جِنْس الحوادِث عندهم تصير مُمْكِنَة بعد أن كانت مُمْتَنِعة، وهذا الانْقِلاب لا يَخْتَصّ بِوَقْتٍ مُعَيَّن، فإنَّه ما مِن وقْتٍ يُقَدَّر إلا وإمكانٌ ثابِتٌ قبله، فَيَلْزَم أنَّه لم يَزَل هذا الانْقِلاب مُمْكِناً، فالحوادث ذاتِيًّاً مُمْتَنِعة قبل أن تكون، وممْكِنة بعد أنْ كانت، والله سبحانه وتعالى دائِماً وسابِقاً ولاحِقًا وأزَلاً وأَبَداً قادِرٌ على خلقِها، إذاً صفاته ليْسَت مُتَعَلِّقة بالحوادِث، فَهُوَ تعالى فعَّال قبل أن يفْعَل، وخلاَّق قبل أن يخلق، ومُحْيٍ قبل أن يُحْيي، ومُميت قبل أن يُميت .
و الإنسان إذا أقْحَمَ عقله في غير اخْتِصاص العَقْل، وأدْخَلَ عقْله في الذات الإلهِيَّة، وبدأ يُفَكِّر، كُلَّما فرَّ مِن فِكْرة خاف منها وَقَعَ في فِكْرة أكبر منها، ويقع في متاهات، فَمِمَّا يُريح الإنسان أن يَقِفَ عند حُدوده، ويَعُدَّ أنَّ جَهْلَهُ بِذات الله هو عَيْن العِلْم به، وأنَّ عِلمه بِكُلّ شيء عن الله هو عَيْن الجَهْل به! لأنَّ الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يُحيط به مَخْلوق
لذلك قال تعالى:
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ﴾