بحث

توحيد الله

توحيد الله

بسم الله الرحمن الرحيم

     أيها الأخوة ، لا ريْبَ أنَّ الإنسان قد يُحَصِّل اعْتِقادات؛ منها ما هو صحيح، ومنها ما هو خطأ وباطل، فَبِذِهْن كُلّ إنسان تَصَوّرات، فمنها ما هو مُطابق للواقع، إذاً فهي حقّ، ومنها غير مُطابقة للواقع، فهي باطلة، فالحقّ هو الشيء الثابت، والباطل هو الشيء الزائل، فَكُلّ شيء ليس له أساس واقِعي فهو باطل، وكلّ شيء مُسْتَنِد للواقع فهو حقّ، لكِنَّه لا بدّ في تَرْجيح تلك المقولات والتَّصوّرات من مِقْياس، ونحن دائِماً نقول : أنت أمام آلاف المقولات ، فأنت أهم شيء أن تملك المِقْياس! أنَّك لو وُضِعْتَ أمام عشرات القطع من الأقْمِشَة، ولِكُل قطعة قماش قياس أُلْصِق عليها، مَكْتوب قياس كذا وكذا، فأنت كيف تَتَحَقَّق من هذه المِقياسات؟ لا بدّ لك من أداة قياس، كذلك لو وقفتَ أمام عشرات المقولات بل مئاتها كيف تتأكّد من صِحَّتها؟ لابدّ من مُرَجِّح.  

     الإنسان بِحُكم فطْرته يُحِبّ ذاته، ووُجوده، واسْتِمرار وُجوده، وكمال وُجوده، وسلامة وُجوده، فإذا تَيَقَّن المرءُ أنَّ الإيمان بالله تعالى ينْفعه، وأنَّ الكُفْر بالله يضرّه، آمن بِدَافِعٍ من فطْرته، فهي التي تَدْعوه إلى الإيمان بالله، فلذلك لو أنَّ الإنسان خُيِّر بين أنْ يُصَدِّق وينْتفِع، وبين أن يُكَذِّب ويتَضَرَّر، مال بِفِطْرته إلى التَّصْديق كي ينتفع، فالمهم ليس حمْل النفْس على طاعة الله، إنما في إقْناعِها بِمَدى الفائِدَة من طاعة الله، فإذا اقْتَنَعت أصْبح التَّطْبيق سَهْلاً، هناك فِكْرة ثانِيَة، وهي أنَّ الإنسان مَفْطور كما قلتُ قبل قليل على جلْب المنافع، ودَفْع المضار بِحِسِّه، إلا أنَّه لا بدّ من شيءٍ خارِجي يُبَيَّن له، فلو كان مَفْطوراً على حُبِّ ما ينْفعه فهل هو مَفْطور على معْرِفَة ما ينْفعه ؟! مِن هنا كان التَّعْليم لا بدّ منه، وإلا أصْبح التَّعْليم لا فائِدَة منه إطْلاقاً، والإنسان أوْدَعَ الله فيه قدْرة التَّعَلّم، فلو أنَّك قرأت الكتاب الفلاني على الطاولة، فهذه الطاولة بعد أن قرأت الكتاب كلَّه، وسألْتها؛ هل تفْهم ما فَعَلْتَ وما قرأت؟!! فحينما خلق الله الخشب لم يُوْدِع فيه القوَّة الإدراكيَّة، فالقَضِيَّة أنَّه ما دام الله تعالى أوْدَع في الإنسان هذه القوَّة سأله أن يتعلَّم، لذا الجمادات لا تُدْرك، والمادَّة ليْسَت عاقِلَة، فالله تعالى ما أوْدع في الإنسان هذه القدْرة إلا وأراد منه أن يتعلَّم، فالله تعالى كما يقول بعض العلماء: ما أمرنا بالدعاء إلا لِيَسْتجيب لنا، وما أمَرَنا بالاسْتغفار إلا لِيَغْفِرَ لنا، وما أمرنا بالتوبة إلا لِيَتوب علينا، وقِياساً على هذه الحقائق فما أوْدع فينا قوَّة التعَلّم إلا من أجل أن نتعلَّم، لذا فالإنسان ليس مفْطوراً على معرفة ما ينفعه، ولكنه مَفْطور على حبِّ ما ينْفعه، يا داود ذَكِّر عبادي بِإحساني إليهم، فإنَّ النفوس قد جُبِلَت على حُبّ من أحْسن إليها، وبُغض من أساء إليها .  

     لا شكَّ أنَّ أهمّ موضوعٍ على الإطلاق في العقيدة هو موضوع التوحيد،  هنالك  مُصْطَلَحَيْن؛ مُصْطلح توحيد الربوبِيَّة، ومصْطلح توحيد الألوهِيَّة، فتَوْحيد الربوبِيَّة بِشَكْلٍ مُختصر يُفيد أنَّ لهذا الكون خالقاً واحِداً، وهذا التوحيد يتوافق مع الفطْرة، وليس موْضِع نِزاعٍ عند عامَّة الناس، وذلك لأنَّه لا أحد ادَّعى أنَّهُ هو الذي خلق الكَوْن، والإنسان بِنَظْرةٍ بسيطة في هذا الكون يشْعر بأنَّ له خالقًا، ، قال تعالى:  

﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾

     حتى عُباد الأوْثان يدَّعون أنَّهم يعْبدون الأوْثان لِيَتَقَرَّبوا بها إلى الله زُلْفى، لكنْ أين الخلاف وأين المُشْكلة ؟‍‍! الخِلاف ليس في توحيد الربوبِيَّة، ولكن في توْحيد الألوهيَّة .  

     كما تعلمون أنَّه ليس هناك شكّ في أنَّ الإنسان مُسَلِّمٌ بالطَّبْع بأنَّ له خالقاً واحِداً، إلا أنَّ التعامل اليوم أنَّ الله عز وجل أوْدع في الأشْياء قوَّة، ففي النار قوّة الإحراق فيما يبْدو، إلا أنَّ الحقيقة أنَّ الأشياء تفْعل الفِعْل بِإرادة الله لا بِذاتِها، فإيداع الله للنار قوَّةَ الإحراق منوط بِمَشيئة الله تعالى، لذلك قال علماء التوحيد اخْتِصاراً عندها لا بها؛ عند مشيئة الله، لا بِذات الأشياء التي تفعَلُ فِعْلها، لذا توحيد الألوهيَّة غير توحيد الربوبيَّة، فالله تعالى خلق الكون، وانتهى الخَلق إلا أنَّه بقِيَ التَسْيير والحركة على وَجْه الأرض، فالإنسان أمامه قِوى ومُغْرِيات، والله تعالى خلق القويّ والضعيف، والفقير والغنيّ، والغبيَّ والذَكيّ، فهذه الحُظوظ المُتفاوِتَة، وهذه القوى المتفاوتة، كيف يتعامل معها الإنسان؟ فإذا ظَنَّ أنَّها فاعِلَةٌ بِذاتها فقد وقع في الشِّرْك، وتوحيد الربوبيَّة يعْني أنّ لهذا الكون خالقاً واحِداً، لكنّ توحيد الألوهِيَّة يعْني أنَّ الله تعالى الذي خلق، وهو ربّ العالمين، وهو الذي يتصرَّف، قال تعالى:   

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾

     يقول علماء التوحيد: لا إله إلا الله، تعني لا مَعبود بِحَقٍّ إلا الله؛ فمن هو الذي ينبغي أن تعبده؟ أوَّلاً: هو الخالق، وثانياً: هو الربّ، وثالثاً: هو المُمِدّ، ورابعاً: الذي يُحْيي ويُميتُ ويرْزق ويرفع ويخْفض ويعطي ويمنع، فهذا الذي بيَدِهِ كُلّ شيء هو الذي ينبغي أن تعْبده.  

     توحيد الألوهِيَّة يختلف عن توحيد الربوبيَّة، هناك عقيدَةً هي سبب هلاكِ أصحابها؛ هم يعْتَقِدون أنَّ الله جلّ جلاله خلاقٌ وليس فعالٌ، كأنَّ المعنى خلق الله الخلْق وقال: انْتهتْ مُهِمَّتي، وبَقِي أنّ لكم أنْ تفعلوا ما تشاؤون، وهو ما يُعَبَّر بِألوهِيَّة الإنسان، لكنَّنا كَمُؤمنين عقيدتنا الإسلامِيَّة النابعة من كتاب الله عز وجل وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تُؤكِّد أنّ الله خلاّق، وفعال، ق ال تعالى :   

﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾

     هذه الآية ومثيلاتها تؤكِّد أنَّ الله تعالى إلهٌ واحِد، وهو ربّ واحد، فهو المُسَيِّر.  

     هناك شِرْك جليّ، وهناك شِرْك خفيّ، فالأوَّل كأن تقول : أعبد بوذاَ، واللات، والعزَّى، إلا أنَّ الشِّرْك الخفيّ أنْ تتَوَهَّم أنَّ جِهَةً ما أرْضِيَةً، أو غير أرْضِيَة، لها التَصَرّف في الكون، قال الله عز وجل:   

﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾

     ونعوذ بالله من الشِّرْك الخفيّ، ومن الشِّرْك الجَلِيّ.  

     الآن، مَن الإله الذي ينْبغي أن يُعْبد؟ دَقِّقوا في هذه الآية:   

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾

     لِهذا الكون خالقٌ واحد هو الله، ولِهذا الكون مُسَيِّر واحِدٌ هو الله، فالله هو الخالق، وهو المُسَيِّر، هو الخالق الربّ، وهو المُسَيِّر الحكيم.  

     النقطة التي بعدها في هذا الموضوع، هو أنَّ الله سبحانه وتعالى رَحْمَةً بِخَلْقِه جَعَل للحقائِق التي يحْتاجُها عِباده أدِلَّة كثيرة؛ قد تحْتاج إلى حقيقة لكِنَّها نادرة، وعليها دليل نادِر، إلا أنّك لو احْتَجْتَ إلى حقيقة أساسيّة في سعادتك، فالحقائِق الأساسِيَّة أكْثر الله تعالى عليها الأدِلَّة، لذلك ما أرْوَعَ قَوْل الشاعر: وفي كُلِّ شيءٍ له آيةٌ تدلّ على أنَّه واحِدُ. سألني اليوم أخٌ كريم، كيف أتَعَرَّفُ إلى الله؟ فقلتُ: الكون أوْسَعُ باب تدْخل منه إلى الله، وهو أقْصر طريقٍ تسْلكه إلى الله، فالكون آياته الكَوْنِيَّة، والقرآن آياته القرآنيَّة، والأفعال آياته التَّكْوينِيَّة، فَمِن هذه الثلاث تَصِل إلى الله عز وجل، وهذا من رحْمَةِ الله تعالى أنَّ الحقائِق الأساسيّة في الدِّين عليها أكثر من دليل.  

     نقفُ عند آيةٍ دقيقةٍ في هذا الموضوع، يقول الله عز وجل:   

﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾

     هذه الآية أساسِيَّة في موضوع توحيد الألوهِيَّة، الإله الحق لا بدّ من أن يكون خالقاً فعالاً، يُوصِلَ عابِدَه للنَّفْع، فهو الذي خلق وهو الذي يتصرَّف، يُعْطيك الخير ويصْرف عنك الشرّ، وهو الذي ينبغي أن تعْبده، وعَمَلِياً فالناس يعْبدون الذي يتَوَهَّمون أنه ينفعهم، ويصْرف عنهم الشرّ، فإذا اعْتَقدوا أنَّ الله وحده هو الذي ينفع ويضرّ كانوا مِمَّن وحدُّوه، وإن اعْتقدوا أنَّ جِهَةً أخرى هي التي تنفعهم فقد أشْركوا.  

     الآن أقول افْتِراضاً: لو كان مع الله تعالى إلهٌ آخر يُشْرِكُهُ في مُلْكِه لكان له خلْقٌ وفعْل وأمْر، وحينها لا يرضى تِلك الشَّرِكة، وإن قدَرَ على قهْر ذلك الشَّريك، وتفرَّد بالمُلْك لَفَعَل! حينما كانت إسبانيا تابِعَة للمُسْلمين كانت مملكة واحدة، فلما أصْبَحَت ممالك، فلو أنَّ واحداً من هؤلاء المُلوك قَدَر على أن يُسَيْطر على الجميع لَفَعَل، ولما لم يقْدر فإنه يسْتَقِلّ بِمُلْكِه، حتى صارت الأندلس ملوكاً وطوائف، ما الذي يحْصل لو أنَّ في الكون آلِهَةً أخرى؟ إما أن يذْهب كُلّ إلهٍ بما خلق، وإما أن يعْلوَ بعضهم على بعْض، وإما أن يكونوا تحت قَهْر إلهٍ واحِد، يتصرَّف فيهم كيف يشاء، ولا يتصرَّفون فيه، بل يكونون مَرْبوبين، وعبيداً مَقْهورين من كلّ وجْه .  

     للكون خالقاً واحِداً، وإلهاً واحِداً، هو الله تعالى، فهو الخالق الإله، لو كان للكون آلهة مُتَعَدِّدَة لكان لكلّ إله نِظامه، ودينه، وأنبياؤه، ولرأيْتَ التَعَدُّد، أو لرأيْت الصِّراع، فإن لم ترَ هذين، بقِيَ أن نقول: إنَّ لِهذا الكون إلهاً واحِداً، وانتِظام أمر العالم كلِّه، وإحْكام أمْره، وتدْبير أمْره، من أدَلِّ الأدلة على أنَّ مُدَبِّرَهُ واحد، فأنت أحْياناً تدْخل إلى مُسْتشْفى، أو إلى مدْرسة، أو مُؤسَّسة، تشْعر بالفِطْرة أنّ مُسَيِّراً واحِدا هو المُخَطِّط،وأمْره نافذ في كل هذه المؤسَّسة؛ دوام منتظم، والأعمال والمحاسبات دقيقة، وكلٌّ يجرب بانتظامِ، فالمؤسَّسة تدلُّك على أنَّ مديراً واحِداً بِيَدِهِ كُلّ شيء، لكن لو تنازعوا السلْطة لكانت هناك حرب أهْلِيَّة، قَتْلٌ وضحايا، وعدم اسْتِقرار، لذلك انتظام العالم، وإحكام أمْره من الأدلةِ القاطعة أنَّ إلهه واحد، وله ربٌّ واحد، ولا إله للخلْق غيره، ولا إله لهم سِواه.  

     قال أحد العلماء : لو تشابهت ورقتا زيْتون لما سُمِّيتَ الواسِع. الخَلْق مُتَنَوِّع، إلا أنَّ هناك وَحْدة، الذي يلْفت نظري أنّ معمل أدْوِية في بريطانيا مثلاً، ويتناول هذه الحبوب إنسان بأُسْتراليا، أو في أيِّ مكان من العالم فَيَسْكُنُ ألَمُه، على أيّ شيء اعْتَمَدنا؟ أليس هناك بُنْية واحدة للبشر؟ لولا أنَّ هؤلاء الناس جميعاً مُصَمَّمون تَصْميماً واحِداً في أعْصابهم لما نفع الدواء، فالطبيب مثلاً يقْرأ علمه على جثَّة واحدة للإنسان، وكل طبيب في العالم يدْرس الأبعاد نفْسها، التصاميم وبُنْية الأبعاد نفسها، هذا دليل على عدم التَّعدد في الخَلْق، بل هناك وَحْدة وانْتِظام، والعالم كلَّه تجْري به سنن واحدة، فانتظام العالم، وإحكامِهِ دليلٌ على أنَّ له إلهاً واحداً.  

     فتوحيد الربوبيَّة يعني استحالةَ وجود خالِقَين لهذا الكون، لكن توحيد الألوهِيَّة: أن لو كان لهذا العالم خالق واحِدٌ، وله آلهة أخرى لفسدتا! فالفساد بعد الوُجود، وهذا الوُجود لا يُعْقل إلا أنْ يكون له إلهٌ واحِد، لكن بعد الوُجود لو أنَّ له آلهة مُتَعَدِّدة لَفَسَد الكوْن، يجب أن يكون هناك إلهٌ واحد، ويجب أن يكون هذا الإله الواحد هو الذي خلق، وهو معنى قول الله عز وجل:  

﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾

     ويُسْتفاد من هذه الآية معلومتان دقيقتان: العالم يفْسد بتَعَدُّد الآلهة، ولا يصْلح إلا أن يكون له إله واحد، هو الذي خلق هذا الكون.  

     أمّا الفكرة التالية، أنّ توحيد الألوهيَّة مُتَضَمِّن توحيد الربوبيَّة، وليس العكْس، بِمَعنى أنَّ الإنسان لو اعْتَقَد أنَّ لهذا الكون إلهاً واحداً، فَمِن لوازم الألوهِيَّة أنَّه هو الذي خلق، وله خالق واحدٌ هو الله عز وجل، فإذا اعْتَقَدْتَ بِتَوْحيد الألوهِيَّة اِعَتْقَدْتَ بِتَوحيد الربوبيَّة ضِمْناً، فلو أنَّك اعْتَقَدْتَ أنَّ لِهذا الكون خالِقاً واحداً ربَّما اعْتقدْت أنَّ زَيْداً أو عُبَيْداً بِيَدهما الأمْر، لذلك كما قال تعالى:   

﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾

     ظنّ أهلها أنَّهم قادِرون عليها فأشْركوا، سَمِعْتُ أنَّ الاتِّحاد السوفيتي كان يمْلِك من القنابل الذريَّة ما يُدَمِّر العالم خمْس مرَّات، ومع ذلك تداعى كَخيوط العَنْكبوت! فهذا من آيات الله الدالة على عظَمَتِه.  

     ننتقل إلى موضوع آخر ولا زِلنا في موضوع الألوهِيَّة، وهو أنَّ توحيد الألوهِيَّة هو توحيد الحقيقة، وتوحيد الحقيقة يوجب عليك أن تعتقِد أنَّ لِهذا الكون إلهاً واحِداً، وينبغي أن تتَّجِهَ إليه وحْده، ويعني أن تعْتقِد أنَّ لهذا الكون إلهاً واحِداً ومُسَيِّراً واحِداً، فَيَجِبُ أن تتَّجِهَ إليه وحْده، وتعتقد وحْدانِيَّته في الألوهِيَّة، وأن تتَّجِهَ إليه وحده في العبوديَّة، فَكَلِمَة (إله) تعني شيْئين: تعني المُسَيِّر الذي بِيَدِه الأمْر، والمعبود معاً، فالذي بِيَدِه الأمْر حقيقة، والمعبود، طلب منكَ أن تعرف هذه الحقيقة، وأن تتَّجِه إليه، فإذا اتَّجَهْت لغيره فقد أشْرَكْتَ، والشِّرْك من أكبر أنواع الظُّلم للنَّفْس، ذَكَرْتُ لكم من قبل مثل؛ أنَّه لو أراد شخصٌ أن يركب قِطاراً إلى الشمال، وله في هذه المدينة في الشمال مَبْلغٌ كبير جداً، ذهَبَ لِيَأخذه بالكمال والتَّمام لِمُجَرَّد الوُصول إلى هذه المدينة، لكنه قد يركب في قِطار الشمال ويقع في أخْطاء كثيرة، كلَّ هذه الأخطاء تُغْفَر، قد يجْلس في مَرْكبة من الدرجة الثالثة مع أنّ بِطاقته من الدرجة الأولى، وقد يتلوى جوعاً، ولا يعْلم أنَّ في القِطار مَرْكبة تُعْطي الطعام، فيُمْضي الوقت كلَّه وهو جائِع، قد يخْتار مرْكبة فيها شباب يُقْلِقون راحته، وقد يختار مرْكبة مقعدها عكْس اتجاه القطار، فهذه كلَّها أخطاء، إلا أنَّهُ في النِّهاية يَصِل إلى مكانه المَقْصود، ويأخذ مبْلغه الكبير، لكن هناك خطأٌ لا يُغْتَفَر، وهو أن يركب قِطاراً متجهاً إلى الجنوب، ظنًّاً منه أنَّه متوَجَّه إلى الشمال، فهذا خطأ لا يُغْتفر، فالخطأ الكبير أن تتَّجِه إلى لا شيء، وهذا هو الشِّرْك، أن تتَّجِه لِغَيْر الله تعالى، وأن تعقِد الأمَل على غير الله تعالى، وأن ترْجُوَ غير الله، وأن تسْترزق غير الله، وأن تطلب الرحْمة من غيره، لذلك قال تعالى:   

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾

     قد يقول أحدكم: لمَ لا يغْفر الله عز وجل؟ فهذا تحْصيل حاصِلٍ، فإذا توجَّه الإنسان لِغَيْر الله، ولم يؤمن بالله، ولم يعْتقد أنَّه هو الفعال، فهذا قد ارْتَكب خطأً مصيريًّاً، وهذه آيةٌ قرآنيَّة تلْفتُ النَّظر، قال تعالى:   

﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾

     هذه الآية ! فيها كلمتان؛ هما صدقًا وعدلاً، فالخبر صادق، والأمر عادلٌ، قال بعضهم: القرآن الكريم بِكُلّ سورِهِ وآياته لا يزيد على أن يكون كلمتين: خبر وطلب، فهو تعالى أخبرك أنَّهُ إلهٌ واحد، وأَمَرَك أن تعبدهُ، قال تعالى:   

﴿ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُون ﴾

     لذلك غالب سور القرآن الكريم مُتَضَمِّنَة لِنَوْعَي التَّوْحيد، فالقرآن إما خبرٌ عن الله تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وهو التوحيد العِلمي، وإما دعْوةٌ إلى عبادته وحْده لا شريك له، وخَلْعُ ما يُعْبد من دونه، وهو توحيدٌ عَمَلي، فأنت بين توحيدين : عِلْمي أو عَمَلي، وهذا هو الدِّين كلُّه، فلو أردْتَ أن تضْغط الدِّين لما وجَدْتَهُ يزيد عن هذين التوْحيدين، قال تعالى:   

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾



المصدر: العقيدة - العقيدة الطحاوية - الدرس (02-20) : توحيد الله